كلمة وزير الخارجية الإيراني في مؤتمر القانون الدولي في مرمى الهجوم: العدوان والدفاع
ألقى معالي الدكتور عباس عراقجي، وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية كلمة في المؤتمر الدولي الذي أقامه معهد الدراسات السياسية والدولية (IPIS) التابع لوزارة الخارجية بمدينة طهران بتاريخ 15 نوفمبر 2025 تحت عنوان القانون الدولي في مرمى الهجوم: العدوان والدفاع.
نص كلمة وزير الخارجية الإيراني في مؤتمر القانون الدولي في مرمى الهجوم: العدوان والدفاع
وفيما يلي نص كلمة معاليه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الخبراء والمفكرون الأفاضل،
سيداتي وسادتي،
أرحب بكم جميعًا في طهران وفي معهد الدراسات السياسية والدولية (IPIS) التابع لوزارة خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية. يسعدني كثيراً أن أتيحت لي فرصة المشاركة في هذا المؤتمر اليوم وتبادل الآراء معكم حول موضوع بالغ الأهمية، وهو القانون الدولي في مرمى الهجوم.
الضيوف الكرام،
في الذكرى الثمانين لتأسيس منظمة الأمم المتحدة، وفي وقتٍ كنا نتوقع فيه التزامًا غير مسبوق بمبادئ وأسس القانون الدولي كفضائل عالمية، واحتفاءً بإنجازات المجتمع الدولي في هذا المجال، نشهد للأسف هجومًا شاملًا على هذه المبادئ من قِبَل قوى تعديلية.
نواجه اليوم واقعًا لا يُمكن غضّ الطرف عنه أو السكوت عليه: القانون الدولي يتعرض للهجوم. ويواجه العالم تحدياتٍ عميقة جداً، واتجاهاتٍ مُقلقة، وتحولاتٍ استراتيجيةً غير مسبوقة على مختلف المستويات.
لقد باتت الركائز الأساسية للقانون الدولي هدفاً لهجمات غير مسبوقة من قبل قوى كان يُفترض أن تكون حامية لها، بحكم زعمها الدائم بأنها هي التي هندست النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية. حتى البنية المعيارية المعترف بها منذ تأسيس الأمم المتحدة انحدرت إلى فوضى عارمة، لدرجة أنه بدلًا من أن يكون "الحرب والعنف" استثناءً و"السلام والتعايش" قاعدة، أصبح العنف والحرب معيارًا جديدًا في العلاقات الدولية، وأصبح اللجوء إلى الأدوات العسكرية معيارًا لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لبعض الدول.
إن الوضع الراهن هو ثمرة ونتيجة اتجاهات مناهضة للقانون الدولي التي اتبعتها، للأسف، الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول المتحالفة معها في السنوات الأخيرة، لصالح نظام متمحور حول الغرب، تحت شعار "نظام دولي قائم على القواعد" « rules-based international order» بدلاً من "نظام دولي قائم على القانون" « law-based international order». عملياً وعلى أرض الواقع، جرى تفسير وتأويل "النظام القائم على القواعد" بناءً على النوايا والأهداف والخطط والمصالح العابرة والموسمية للدول الغربية، وبشكل عام، في معارضة للقانون الدولي، كما اُستخدم النظام المذكور، بأكبر قدر ممكن من الانتقائية، كأداة تحت تصرف نزعة الاستعلاء المنتشية التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية والغرب.
للأسف، لم تجد النداءات والتحذيرات الكثيرة الصادرة عن شخصيات دولية بارزة ودول مختلفة، بما في ذلك دول الجنوب العالمي، بشأن ضرورة العودة إلى قانون دولي قائم على العالمية والمساواة ونبذ القوة والتمييز، آذاناً صاغية. وقد وصل الأمر إلى حدٍّ قلّ فيه الحديث عن نظام قائم على القواعد، ونشهد في الواقع محاولةً من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض حلفائها لبناء "نظام دولي قائم على القوة" « Force-based international order ».
أيها الأساتذة والباحثون الأعزاء،
وصل الرئيس الأمريكي إلى البيت الأبيض حاملاً عقيدة "السلام بالقوة". ولم يمضِ وقت طويل حتى اتضح أن هذه العقيدة، في جوهرها، كانت بمثابة شفرة للعمليات وغطاءً لإطار عمل جديد: "الهيمنة بالقوة"، بل بالقوة المجردة.
ما يكرره المسؤولون الأمريكيون اليوم، دون أي تجميل، لا يترك مجالاً للتأويل فيما يتعلق بهذا الواقع. فيُصرّح الرئيس الأمريكي بوضوح أن أمريكا لم تعد ترغب في التصرف بناءً على اعتبارات سياسية صحيحة وفي إطار القانون الدولي، بل ترغب ببساطة في أن تكون "منتصرة". هذا هو بيان أمريكا المهيمنة، وعملياً، عودة إلى قانون الغاب.
في هذا البيان، يُصبح وزير الدفاع وزيرًا للحرب، وتُدرج مسألة اختبار الأسلحة النووية مجددًا على جدول الأعمال. رئيسٌ يُصوّر نفسه رئيسًا للسلام، يُهاجم عشوائيًا أينما يشاء دون سبب أو مبرر، ويأمر بإخلاء المدن، ويطالب بالاستسلام غير المشروط، وينتهك جميع القوانين الدولية، حتى التزامات أسلافه من الرؤساء.
إذا لم يكن هذا التوجه المتمثل في الاستخدام المُفرط والمتهور للقوة، والهجوم المُستمر على أسس القانون الدولي، قانون الغاب، فما هو إذًا؟ من أي منظور، لا يُمكن لهذا التوجه أن يستمر، ويجب ألا يستمر.
كما تشير أحدث الإحصاءات إلى أن الميزانية العسكرية العالمية قد اقتربت من مستوى غير مسبوق أي 3 تريليونات دولار، وهو أعلى نمو لها منذ عدة عقود. ففي عام 2024 وحده، خُصص ما يزيد عن 7% من الميزانيات الحكومية للعسكرة، وتشير التقديرات إلى أن هذه النسبة ستصل إلى 10% على الأقل في عام 2025. تشمل هذه الزيادة جميع مناطق العالم الجغرافية، ولن تُسفر إلا عن نتيجة واحدة: المزيد من الحروب والعنف والتوتر العام. والسبب واضح: ففي الغابة التي صنعتها الولايات المتحدة الأمريكية، لا يوجد قانون، وللدفاع عن النفس، يجب أن يكون المرء قويًا.
نتيجةً لهذه العسكرة المفرطة، نشهد اليوم تصدعات جيوسياسية واسعة النطاق، وتنافسات متزايدة بين القوى الكبرى، وتطويرًا للصواريخ والترسانات النووية والأسلحة الهجومية، وتسليحًا للتقنيات السلمية، كمعدات الاتصالات العادية، وصراعات عابرة للحدود تشارك فيها قوى إقليمية متوسطة، وفوضى متعددة الطبقات في النظام الدولي والإقليمي، وتراجعًا في التقارب الاقتصادي والثقافي، بل وحتى العسكري، بين الدول، والأهم من ذلك، تهميشًا للدبلوماسية. والحقيقة هي أنه عندما هاجم الكيان الإسرائيلي إيران في 13 يونيو/حزيران، بأمر وتوجيه من الرئيس الأمريكي، أُطلقت أولى القنابل على طاولة المفاوضات بين طهران وواشنطن - التي عُقدت خمس جولات منها، وكان من المقرر عقد الجولة السادسة بعد يومين، أي في 15 يونيو/حزيران. إذاً كانت الدبلوماسية أول ضحايا حرب الاثني عشر يومًا.
الحضور الكرام،
تُعدّ منطقة غرب آسيا، باعتبارها من أكثر مناطق العالم تدويلًا، الضحية الرئيسية لهذا الوضع المأساوي، وتتأثر تطوراتها بشكل مباشر بالاتجاهات المذكورة. بل إن التطورات في هذه المنطقة، وخاصةً خلال العامين الماضيين، تُجسّد بوضوح هذه التوجهات الخطيرة المناهضة للسلام والقانون الدولي.
ولا يخفى على أحد كيف يتابع كيان تل أبيب، بصفته عميلًا وتابعًا للولايات المتحدة في منطقة غرب آسيا، تحقيق أطماعه الجيوسياسية اللامحدودة والخطيرة من خلال مهاجمة أبسط مبادئ القانون الدولي. فهذا الكيان، معتمدًا على شيك مفتوح من واشنطن وبعض الدول الأوروبية، ومدعوماً بمليارات الدولارات من الأسلحة والمعدات العسكرية من حلف شمال الأطلسي (الناتو) والدول الغربية، والحصانة التي وفرتها له هذه الدول في المحافل الدولية، ارتكب ولا يزال يرتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية، من مجازر جماعية وقتل عمد وإبادة جماعية وتطهير عرقي.
وعلى مدار العامين الماضيين، اعتدى الكيان على سبع دول، واحتل، بالإضافة إلى فلسطين، مناطق جديدة في دول أخرى، بما في ذلك لبنان وسوريا، مدعيًا بوقاحة إعادة رسم النظام في منطقة غرب آسيا وإقامة "إسرائيل الكبرى". وقد بات من الثابت الآن أنه لا توجد دولة في منطقة غرب آسيا بمنأى عن طموحات الكيان الإسرائيلي للهيمنة العسكرية والأمنية.
أيها السيدات والسادة،
وبناءً على هذا المنطق نفسه، وفي إطار أوهامه وطموحاته الجيوسياسية، أقدم الكيان الإسرائيلي - بأمر وتوجيه كامل من الولايات المتحدة، كما اعترف رئيسه مؤخرًا – على توجيه ضربة غادرة للدبلوماسية وإمكانية التوصل إلى اتفاق بالطرق السلمية في منتصف ليل الثالث عشر من يونيو/حزيران، أي قبل يومين فقط من الجولة السادسة من المفاوضات النووية في مسقط.
إن عدوان الكيان الصهيوني على الأراضي الإيرانية، واستشهاد عدد من المدنيين، واغتيال القادة في منازلهم، واستهداف المنشآت النووية السلمية، لم ينتهك أبسط مبادئ القانون الدولي ومواد متكررة من ميثاق الأمم المتحدة فحسب، بل شكّل أيضًا اعتداءً شاملاً على نظام الضمانات ومنع الانتشار.
ففي الذكرى الثمانين لمأساتي هيروشيما وناغازاكي، ارتكبت الولايات المتحدة، بهجماتها العدوانية والمارقة وغير المسؤولة على المواقع النووية السلمية الكائنة في الأراضي الإيرانية والخاضعة لإشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية، جريمة أخرى، وأصبحت مرة أخرى التهديد الأول للسلم والأمن الدوليين.
إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، انطلاقًا من حقها في الدفاع المشروع عن أرضها وشعبها ضد أي عدوان ظالم، لم تكتفِ بصد المعتدين فحسب، بل أثبتت أيضًا، من خلال الضربات القاسية التي وجهتها لهم، أن الشعب الإيراني، وإن كان شعبًا مسالمًا، إلا أنه في أوقات الحرب يصمد حتى النهاية، ويجعل المعتدي يندم على أفعاله. وقد شهد الجميع كيف تحولت رسالة "الاستسلام غير المشروط" في غضون تسعة أيام إلى طلب "وقف إطلاق نار غير مشروط"، وتبددت الأوهام الأولية حول الشعب الإيراني ونظامه.
لقد كان سلوك الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بصفتها أحد مؤسسي الأمم المتحدة، متوافقًا تمامًا مع القانون الدولي دائمًا. ويستند البرنامج النووي الإيراني بشكل أساسي إلى حقوقنا المعترف بها بموجب المادة الرابعة من معاهدة حظر الانتشار النووي. إن تطوير التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية، بما في ذلك التخصيب، هو حق أصيل لا يمكن نزعه من الشعب الإيراني، وهو حق لم نحد عنه أبدًا. ولسنوات عديدة، خضعت إيران بالكامل لنظام التحقق الأكثر شمولاً للوكالة الدولية للطاقة الذرية والتزمت بجميع التزاماتها الفنية.
وبعد الاتفاق النووي لعام 2015، أوفت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالتزاماتها بالكامل بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة وقرار مجلس الأمن الدولي رقم 2231، كما تم التحقق من ذلك من خلال 15 تقريرًا متتاليًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية، وليس إيران، هي التي انسحبت من الاتفاق من جانب واحد ودون أي سبب. ولو ظلت الولايات المتحدة ملتزمة بالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة، لكنا في وضع مختلف تمامًا اليوم.
لقد نُفِّذ ردُّ إيران على عدوان إسرائيل والولايات المتحدة بدقة وفقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، أي "الحق الطبيعي في الدفاع عن النفس". وقد صُمِّمت عمليتنا الدفاعية مع مراعاة مبادئ الضرورة والتناسب والتمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية. وحتى في ذروة التهديد والعدوان، التزمت إيران بمعايير القانون الإنساني الدولي. وعلى عكس الكيان الإسرائيلي، الذي يرتكب مجازر بحق مئات المدنيين لأدنى ذريعة، لم يكن أيٌّ من أفعال إيران موجهةً نحو المناطق السكنية أو المدنية. وقد أثبتت الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنها في جميع الأزمات والصراعات، تتصرف في حدود القانون، بينما انتهك المعتدون ميثاق الأمم المتحدة ونظام منع الانتشار ومبادئ العدالة، بل وحتى القواعد الآمرة للقانون الدولي أمام أعين العالم.
سيداتي وسادتي،
إن القانون الدولي، رغم ما يتعرض له من هجوم غادر، لا يزال حيًا، شريطة أن ندافع عنه جميعًا. كما أن التحديات التي ذكرتها آنفًا تحمل في طياتها فرصًا عظيمة، منها الوعي العالمي والإقليمي بالوضع الحرج الراهن، وإرادة عالمية موحدة للشمولية، وتجنب العسكرة، والتعاون القائم على المصالح الجماعية. علينا جميعًا أن نعود إلى نهج قائم على إعادة الالتزام بالإنجازات الإنسانية القيّمة في مجال سيادة القانون، وحظر القوة والعدوان، وتعزيز روح ميثاق الأمم المتحدة. إذا لم يُوقف هذا التوجه الخطير المتمثل في الخروج على القانون، والسلوك الخارج عن القانون، واستخدام القوة الغاشمة اليوم، فقد نشهد جميعًا تجارب مريرة أخرى في المستقبل.
يقف العالم والمنطقة اليوم عند مفترق طرق للاختيار بين خطابين: من جهة، هناك خطاب الهيمنة والسعي وراء الاستعلاء؛ واستخدام القوة والأمننة؛ والعسكرة والحرب والعنف - أي باختصار، شريعة الغاب. ومن جهة أخرى، هناك خطاب عالمي قائم على القانون والقانون الدولي الشامل؛ ومساواة قائمة على التقارب والحوار والسلام في إطار جماعي. وتؤمن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بهذا الخطاب الأخير، وهي مستعدة، بالتعاون مع دول الجنوب والحكومات المسؤولة، للاضطلاع بدورها في إعادة النظام العالمي إلى نظام قائم على القانون.
في محيطنا، تسعى إيران إلى منطقة قوية قائمة على التفاهم المشترك والأخوة والسلام. نحن بحاجة إلى نهج شامل يستفيد من جميع القدرات الإقليمية. تعتبر الجمهورية الإسلامية الإيرانية أمن دول المنطقة من أمنها، وترغب في أن تكون "الثقة المستدامة" أساسًا ومحورًا للوضع الجديد في هذه المنطقة. علينا جميعًا أن نلعب دورنا الإيجابي في هذه المنطقة، وأن نؤسس لعقيدة جديدة للأمن والسلام والازدهار والتقارب.
أتقدم بالشكر لزملائي في معهد الدراسات السياسية والدولية، وآمل أن يُسهم مؤتمر اليوم في تطوير الأسس النظرية والعملية لهذا الخطاب.
شكرًا لاهتمامكم.